يروي الصحفي ستيفن جانوت كيف تحوّلت الحياة الجامعية في غزة إلى فعل تحدٍّ صريح للحرب والركام واللايقين. يمشي الطلاب بين أرضيات متشققة وواجهات محطّمة في حرم جامعة الأزهر، ويصنعون من كل خطوة فوق الخرسانة المكسورة إعلاناً عن رغبة عنيدة في انتزاع مستقبل حاول الصراع محوه. يعلو صوت الإرادة على صدى القصف القديم، ويظهر الإصرار في دفاتر مفتوحة وحقائب مهترئة تحمل أكثر من كتب؛ تحمل فكرة البقاء نفسها.

 

يشير التقرير المنشور على ذا ميديا لاين إلى سياق معقّد تتعايش فيه هدنة هشّة مع توتّر دائم، تشكّلت ملامحها بعد تدخلات سياسية وخطط دولية مرتبطة بغزة وقرارات من مجلس الأمن. تخفّ حدّة البنادق، لكن الشعور بالاستقرار لا يجد طريقه إلى القلوب. يتمسّك حماس بسلاحه، وتصرّ إسرائيل على ضمانات أمنية، بينما يقف سكان غزة في المنتصف، مجبرين على ارتجال طرق جديدة للحياة.

 

الجامعة كجبهة مقاومة يومية

 

داخل القاعات التي بقيت واقفة، يتمسّك طلاب باختيار تخصصاتهم رغم الدمار. تدرس سارة أحمد بسل الهندسة المعمارية بعد أن أنهت مدرستها الثانوية داخل خيمة مؤقتة، وتحلم بأن تساهم في إعادة بناء مدينة تحوّلت إلى أنقاض. ترى في كل مخطط ترسمه محاولة لمحو آثار الهدم، وفي كل قياس زاوية تعيدها إلى مكانها وعداً غير مكتوب بالعودة إلى شكل طبيعي للحياة.

 

تسرد طالبة أخرى، سما أحمد، رحلة مختلفة عبر النزوح والجوع وضعف الاتصال بالإنترنت، لكنها تحقق معدل 95% وتقرر التحويل إلى تخصص تكنولوجيا المعلومات «لرفع اسم فلسطين». لا تنظر إلى الأرقام على أنها مجرد درجات، بل تعتبرها سلاحاً معرفياً في معركة طويلة لإبقاء الهوية حاضرة في العصر الرقمي.

 

أما محمد، طالب طب الأسنان، فيراهن على البقاء داخل غزة لإنهاء دراسته، رغم الدمار الذي أصاب العيادات واعتقال عدد من الأطباء. يراوده حلم بسيط ومعقّد في آن واحد: عيادة صغيرة، أدوات نظيفة، ومرضى يعرفهم بالاسم، لا بالرقم.

 

خارج الأسوار: السياسة والخيام

 

خلف أسوار الجامعة، تكبر حالة الإحباط والارتباك. تناقش الأحاديث اليومية خططاً سياسية متضاربة ومستقبلاً معلقاً بين رؤى متنافسة لحكم غزة وإدارتها. يرفض بعض السكان أي إدارة أجنبية، بينما يرى آخرون أن الإعمار لن يبدأ من دون دعم دولي منظم بالتعاون مع السلطة الفلسطينية. تصبح السياسة كلاماً ثقيلاً يتردد بين الخيام، فوق أرض تحوّلت إلى طين بعد الأمطار، وتحت سماء مثقلة بالأسئلة.

 

تعيش عائلات كاملة داخل مخيمات مؤقتة، تتشارك روايات عن الفيضانات والرطوبة والخوف من أن يكبر الأطفال وهم لا يعرفون سوى القماش والبلاستيك سقفاً لحياتهم. يختلط في عيونهم القلق بالغضب، لكن يظل هناك خيط رفيع من الأمل يتسلل عندما يمر طالب يحمل كتبه فوق الوحل في صباح بارد.

 

تعليم يقاوم النسيان

 

يجمع التقرير أصوات هؤلاء الشباب ليقدّم صورة لمجتمع عالق بين الإنهاك والصمود. يتصارع داخلهم واقع الخيام مع حلم الفصول الدراسية، وتتنازعهم كوابيس الحرب مع رغبة عنيدة في الحياة والعمل والمعرفة. يتحول الكتاب إلى مساحة آمنة رمزية، وتغدو المحاضرة فعل حماية للذات ضد الانهيار الكامل.

 

لا تدور القصة فقط حول التعليم، بل حول معنى أن يختار الإنسان المعرفة في زمن يبدو فيه الجهل والعنف أقرب وأسهل. يقف الطالب في غزة أمام سؤال وجودي: هل يستسلم لحاضر يصرخ بالفوضى، أم يستثمر في مستقبل قد لا يراه قريباً لكنه يصر على بنائه حرفاً بعد حرف؟

 

يشير ستيفن جانوت إلى أن الجواب لا يأتي في بيانات سياسية ولا في خطط دولية، بل في التفاصيل الصغيرة: دفتر يحافظ على صفحاته، قلم يستمر في الكتابة، وطالب يرفض أن يختصر حياته في دور الضحية. هنا، يتحول التعليم إلى لغة مقاومة صامتة، وإلى رسالة تقول إن المعرفة، رغم كل شيء، تملك عناداً يشبه عناد الأرض نفسها.

 

بهذه الصورة، لا تبدو غزة مجرد مكان للحرب، بل مساحة تختبر فيها البشرية حدودها بين الفناء والاستمرار. بين خيمة وكتاب، بين ركام وسبورة، يكتب الشباب فصلاً جديداً لا تُسدل عليه الستارة بسهولة، ويؤكدون أن الاستسلام خيار لا مكان له في قاموسهم.

 

https://themedialine.org/mideast-daily-news/from-tents-to-textbooks-gazas-youth-refuse-to-give-up/